إنَّ دأب كثير من الناس سواء في أحاديثهم ومنتدياتهم، أو في مطالباتهم وخصوماتهم يتجادلون ويتمارون عند كل صغيرة وكبيرة.
لا لجلب مصلحة، ولا لدرء مفسدة، ولا لهدف الوصول إلى الحق والأخذ به، وإنما رغبةً في اللدد والخصومة، وحبًّا في التشفي من الطرف الآخر
ولهذا تجد الواحد من هؤلاء يُسَفِّه صاحبه، ويرذل رأيه، ويردُّ قوله.
فلا يمكن-والحالة هذه-أن يصل المتجادلون إلى نتيجة طالما أن الحق ليس رائدَهم ومقصودَهم.
وإذا الـخصمان لـم يـهتديا * سُنَّةَ البحثِ عن الحق غبر
فالجدال والمراء على هذا النحو مجلبة للعداوة، ومدعاة للتعصب، ومطية لا تباع الهوى.
بل هو ذريعة للكذب، والقولِ على الله بغير علم خصوصًا إذا كان ذلك في مسائل الدين، وهذا أقبح شيء في هذا الباب.
قال الإمام النووي-رحمه الله-: مما يذمُّ من الألفاظ المراء، والجدال، والخصومة.
ثم قال الإمام النووي-رحمه الله-: واعلم أن الجدال قد يكون بحق، وقد يكون بباطل، قال الله-تعالى-: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [لعنكبوت: 46]، وقال-تعالى-: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4].
فإن كان الجدالُ الوقوفَ على الحق وتقريره كان محمودًا، وإن كان في مدافعة الحق، أو كان جدالًا بغير علم كان مذمومًا.
وعلى هذا التفصيل تنزيل النصوص الواردة في إباحته وذمه.
ثم قال-رحمه الله-: قال بعضهم: ما رأيت شيئًا أذهب للدين، ولا أنقصَ للمروءة، ولا أضيع لِلَّذة، ولا أثقل للقلب من الخصومة.
فإن قلت لا بد للإنسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه؛ فالواجب ما أجاب به الإمام الغزالي أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل أو بغير علم، كوكيل القاضي؛ فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف أن الحق في أي جانب هو فيخاصم بغير علم.
ويدخل في الذم-أيضًا-من يطلب حقه، لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يظهر اللَّدد، والكذب؛ للإيذاء والتسليط على خصمه.
وكذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي، وليس إليها حاجة في تحصيل حقه.
وكذلك من يحمله على الخصومة محضُ العناد؛ لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم.
وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لَدد أو إسراف، أو زيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء؛ ففعله هذا ليس حرامًا. ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلًا؛ لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذِّر.
والخصومة تُوْغِرُ الصدر، وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب؛ حصل الحقد بينهما حتى يفرح كلُّ واحد منهما بمساءة الآخر، ويحزن بمسرته، ويطلق العنان بعرضه.
فمن خاصم؛ فقد تعرض لهذه الآفات، وأقلُّ ما فيه اشتغال القلب، حتى يكونَ في صلاتِه، وخاطرُه معلّق بالمحاجّة والخصومة، فلا يبقى حاله على الاستقامة.
والخصومة مبدأ الشر، وكذلك الجدال والمراء؛ فينبغي ألَّا يفتح عليه باب الخصومة إلَّا لضرورة لا بد منها، وعند ذلك يحفظ لسانه وقلبه من آفات الخصومات.